بقلم : محمد السالك ولد سحنون
لقد كان من منة الله وفضله إنزاله القرآن الكريم "يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذالك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" يونس 57-58
لذلك فرح به من تأثر به فكان أرق الناس قلبا وأسرعهم دمعة وأشدهم خشية لله تعالى نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ذات النهج سار أعمق الأمة علما وأقومها هديا وأشدها تمسكا بالسنة صحابته رضي الله عنهم أجمعين .
لقد بلغ القرآن في تأثيره ونجاحه مبلغا خرق به العادة في كل ما عرف من الكتب وخرج عن المعهود من التأثير النافع بالكلام وغير الكلام وذلك عن طريق أسلوبه المعجز الذي هز النفوس والمشاعر وملك القلوب والعقول وكان له من السلطان ما جعل أعداءه منذ نزوله إلى اليوم يخشون بأسه وصولته ويخافون تأثيره وعمله أكثر مما يخافون الجيوش الفاتحة والحروب الجائحة . لأن سلطان القرآن امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح فكان لها روحا ونورا ومنه عاشت حياة طيبة .
لقد وصف الله عز وجل حال المتأثرين به فقال "إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"
ولأنه أحسن الحديث "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" فقد كان حالهم مع نداءات القرآن "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الله
ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون" امتثالا لامر الله سبحانه وتعالى "يأيها اللذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون" فكانت استجابتهم "وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فوفقوا إلى تحصيل الرحمة والبركة إلى التي وعد الله بها في قوله "وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون"
"يأيها الناس قد حاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما"
لقد كان من ثمرة تمسكهم بالكتاب والاعتصام به إنهم صاروا من المصلحين "والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين" الأعراف 170
هكذا سار السلف الصالح يقرنون بين تلاوة القرآن والعمل به وحفظ حروفه ومراعاة حدوده . كما قال أبو عبدا لرحمن السلمي "" حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها العلم والعمل . قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا . مجموع الفتاوى – ابن تيمية 13- 331
واستعانوا على ذلك بحسن الصحبة للقرآن ليلا ونهارا فكان لهم في هزيع الليل دوي بالقرآن كدوى النحل تبتلا لله رب العالمين وطمعا في رضوانه والحصول على أعلى جنانه "إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون" الذاريات 15-18
لقد علموا ان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حين وجه له الأمر "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " فكان حالهم "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم ......" وحين سئل علي رضي الله عنهم قال "لقد رأيت اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ارى اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى , قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله , يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم , والله لكان القوم باتوا غافلين .
ولقد كانت أدعية القرآن المباركة هي معراجهم لبلوغ حاجاتهم فقد كانوا يكثرون من قولهم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" معتصمين بالله من الزيغ والضلال " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب "
فوهب الله لهم الحكمة والعلم وحسن الاستنباط وبراعة الاستدلال فضلا من الله ونعمة "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب" فانظر إلى قول مكحول مستنبطا من القرآن قواعد عظيمة النفع غاص عليها في بحر آيات قليلة : " أربع من كن فيه كن له , وثلاث من كن فيه كن عليه فأما الأربع اللاتي له . فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار قال تعالى : "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" وقال "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" وقال "قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعائكم" وأما الثلاث اللاتي عليه فالمكر والبغي والنكث قال تعالى "فمن ينكث فإنما ينكث على نفسه" وقال "لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" وقال "إنما بغيكم على أنفسكم" لذلك كانت مواعظهم ووصاياهم قائمة على الوحي لعلمهم بعظم تأثيره
"لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" وحين سأل سلمان بن عبد الملك أبا حازم عن سبب كراهية الموت رد عليه لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب
قال : صدقت ثم قال : يا أبا حازم ليت شعري مالنا عند الله غدا ؟ قال: أعرض عملك على كتاب الله عز وجل قال فأين أجده ؟ قال قال تعالى "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" قال سليمان فأين رحمه الله ؟ قال أبو حازم : "قريب من المحسنين"
لقد كان ارتباطهم بالقرآن يتعدى ذلك كله إلى الاستشفاء به طلبا لنفعه المحسوس في علاج أمراض الأبدان والقلوب فقد علموا أنه "شفاء لما في الصدور" وذلك لمن آمن به "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا"
و "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" ويصدق ذلك ما كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته طلبا للشفاء "ما أصاب عبد هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحا " .
ولم يكن هذا مبلغهم من العلم والعمل وإنما ملك القرآن عليهم كيانهم واستولى على شعورهم فأحبوه فلم يطيقوا عنه صبرا لذلك كانت امنية أحدهم بيتا خاليا ومصحفا جيد الخط
فإن خالطوا الناس كان تعليمهم ودعوتهم بالقرآن منه واليه تنتهي .
فانتفعوا به أيما نفع .فحصلوا بركته وساحوا في رياضه :
إيمانا " والذين اهتدو زادهم هدى وآتاهم تقواهم "
ورحمة "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون "
وبركة " وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون"
وتوفيقا "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" .
وأجرا عظيما "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور" .
وحياة طيبة "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"
جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن "أهل الله وخاصته"
بقلم : محمد السالك ولد سحنون
0 التعليقات:
إرسال تعليق